وزارة الثقافة و السياحة و الآثار دائرة السينما و المسرح Cinema and Theater Foundation

ســــــــــــــارتر .. مكان الجحيم


ســــــــــــــارتر .. مكان الجحيم

 

المكان في جلسة سرية

الاول :  (هنا) وهو مكان عمل الشخصيات ووقائع الاحداث .. (هنا) تعني الجحيم وهي مركز النص كله .

الثاني: (هناك) وهو مكان ذكريات الشخصيات قبل الموت ، فهو العالم السفلي (الارض) وهو محيط المركز لكنه يسبق هذا المركز من حيث وقوعه في الزمن .

ورغم ان المكانين منفصلان تماما ، فهما يتبادلان التأثير بمعنى ان الثاني الـ (هناك) يشحن الاول الـ (هنا) لكنه لا يدخل في معماره بل يتدخل في فرز وظيفته ، فهو ذكرى فقط ، يسترجع عن طريق شخصيات النص التي انتقلت من الـ(هناك) الى الـ (هنا) بفعل الموت ، واقعة انتهاء الحياة ؟

ان المكان الاول يطل على الثاني يراه مباشرة وينظر الى ما يقع فيه ويتذكره فالمركز يستقطب المحيط ولكن المحيط لا يعرف شيئا عن المركز فهو مجهول تماما ، وهذا يسبب الما ومرارة لشخصيات ويزيد من حدة الصراع ، صراع كل شخصية مع ذاتها ومع الآخر مما يخلق توترا دراميا يعزز عزلة كل شخصية ويجهض كل محاولة للاتصال بالشخصية الاخرى ، الاتصال الذي يقيم علاقة ايجابية بين شخصيتين او اكثر .

لنر كيف تتذكر الشخصيات في الـ (هنا) ما وقع لها في الـ (هناك) وكيف نتعامل مع احداث الـ (هناك) التي تقع توا ؟؟

جارسان : ... انا هنا لاني عاملت زوجتي بطريقة شنيعة هذا كل ما هناك لمدة 5 سنوات وبالطبع هي ما زالت تعاني ، في اللحظة التي اذكرها فانني اراها .. لقد اعطوها اشيائي . انها تجلس بجانب النافذة .. ان معطفي على ركبتها ، المعطف ذا الاثنتي عشر رصاصة ... ذلك المعطف ، مملوء بالتاريخ .. ان الدنيا تمطر ثلجا في الطريق .

جارسان:...  انه جونيز ، انه يرجع ثانية الى حجرة الطباعة . فقد اغلقوا النوافذ ، لا بد ان الدنيا شتاءا في العالم الارضي ... انهم يرتعدون ، لقد ظلوا مرتدين معاطفهم ... آه ، في هذه المرة انه يتكلم عني

جارسان : ...  يجب ان اقول انه يتكلم بطلاقة ، انه يعرف كيف يقف ضدي

جارسان: ... انهم يبدون متكدرين وهم يفكرون (جارسان جبان) لكنهم يفكرون في ذلك في ايهام كما لو كانوا يحلمون ... هذا هو ما قرره هؤلاء الاصدقاء الاعزاء الذين كانوا اصدقائي طوال 6 اشهر سوف يقولون (جبان كهذا الخنزير جارسان) .

اذن ف "جارسان " يرى زوجته الحزينة لمقتله ويرى معطفه الذي نخبه الرصاص ، ويرى مكتبه في الجريدة ، ويرى صديقه جوميز وبقية العاملين في غرف الطباعة ، ويستطيع كذلك ان يسمع ما يقولونه عنه انه جبان – لكنه لا يستطيع الرد ابدا وعدم تمكنه من الدفاع عن نفسه يسبب له ألما هائلا ... ومثلما لا يستطيع جارسان ، يستطيع ايضا الشخصيتان الاخريان (انيز) و (استيل) رصد ما يحدث في الـ (هناك) الذي يزيد من عذابهم وعزلتهم .

في توصيفه لمكان جلسة سرية يشير سارتر الى المكان باعتباره ( حجرة جلوس) ولتقريبه من حسنا الواقعي يعمد المؤلف لتأثيثه أثاثا على طراز الامبراطور الثاني – لويس فيليب : ارائك ، تمثال من البرونز ، قاطعة اوراق ومدفاة . ( تصور مدفاة في الجحيم) ، انها لعبة نادرة الذكاء لابعادنا تماما من الجحيم ، قاطعا الطريق امام تصوراتنا ومعتقداتنا الدينية والشعبية عن الحرارة التي لا تطاق والنار المستعرة ابدا .

انه يضع المدفأة وسط جهنم ن هذه ليست نكتة بل محاولة رائعة لادخالنا في الايهام المسرحي من جهة ، ولبذر البذرة الاولى لتقديم ايضاح درامي بان الجحيم ليس هو جحيم التصورات المألوفة لدينا . ولكي يدفعنا المؤلف في خضم لعبة الايهام ، فان المسرحية تبدأ ولا (ستار يرفع) في حين يؤكد على (اسدال الستار) في نهاية النص ، انه الايهام بالمقلوب ، اذن فالمكان معرض للاستجواب والتساؤل ليس باعتباره جحيما ، بل باعتباره مكانا واقعيا لم تتعود عليه الشخصيات بحكم انتمائه التاريخي لعصر سابق ، عصر لويس فيليب .

جارسان :... الاحظ ان اثاثها من طراز الامبراطور الثاني حسنا ، حسنا استطيع ان اقو لان المرء سيتعود عليها مع مرور الزمن .

ان اقرار جيرسان بانه سيتعود عليه ، الزمن – يعني :- ان المكان او تأثيثه غريب علي او انه على مبعدة منه ..ليس باعتباره جحيما ، بل باعتباره اثاثا انتهى زمانه ، اي انه ليس معاصرا .

ان المكان هنا محايد على الاقل بحكم مقدرة الشخصية على التكييف معه انه لا يخيف ولا يدعو للرعب ، فليس هناك ادوات التعذيب ولا القضبان المسننة ولا الكلابات المتوهجة .

وهكذا يجرجرنا للايفال معه في الايهام ولعبته عندما تطالبه الشخصية بالمزيد مما نستعمله في حياتنا الشخصية .

فرشاة اسنان في الجحيم او مدفأة من قبل وتمثال من البرونز ياله من جحيم .. اذن هل ابقى سارتر من احساس بالجحيم حسب تصوراتنا نحن  ، سكان الارض ، المكان كما كان يصر على حيادته لكن (اشياء) المكان تبدأ عصيانها ضد هذه الحيادية ) الاريكة ليست هي التي تقدم الراحة للشخصية .، الالوان تثير القرف والاشمئزاز ، فرشاة الاسنان التي تستعمل من قبل شخصية واحدة ، تستعمل لثلاث شخصيات في الوقت نفسه ، اي اشمئزاز – وتمثال بشع يثير الكابوس بحكم النظر اليه في كل لحظة والى الابد ومدفاة لا يحتاجها رواد هذه الحجرة  وقاطعة اوراق زائدة عن الحاجة ، بلا جدوى : -

جارسان : - ... ما هذه ؟

الخادم : - الا ترى ؟ مجرد قاطعة اوراق عادية

جارسان : هل توجد كتب هنا ؟

الخادم : كلا

جارسان :- اذن فما فائدتها : (يهز الخادم كتفيه ) .

اثاث زائد ، مما يزيد في اضطراب المكان ويذخر في حياده الظاهر . ان كل مكان يعلن عن ضعفه او قوته جدواه او عدمه ، جماله او قبحه ، امتيازاته او سماته ، الايجابية او السلبية ، يعلن عنها عندما يقارن مع امكنة اخرى ، وكل مكان يحقق المتعة لنزلائه فانه يحتاج لحد ادنى الى امكنة اخرى تساعده في انجاز هذه الراحة والمتعة . ان المكان بذاته ليس مستقلا بل ان استقلاليته تتحقق من خلال تداخله مع امكنة اخرى بالانفتاح عليها او التداخل معها ، ومكان الجحيم مهيأ لهذا ، فبالقرب من حجرة النص يقع صف من الحجرات الاخرى على طول العمر ويكفي ان نفتح الباب فقط وهو الوسيلة الوحيدة التي نتمكن عبر استخدامها من نقل اجسادنا الى الخارج حيث لا توجد نوافذ في هذه الحجرة – كما ان الجرس وسيلة سريعة لاستدعاء عمال الخدمات او لحل اي طارىء يقع في الحجرة ، وهاتان الوسيلتان موجودتان ماديا غير انهما عاطلتان عن العمل في لحظة احتياجهما ، فلا الباب ينفتح ولا الجرس يدق وهكذا وعبر وجودهما يتم تحطيم حيادية المكان الذي تتواجد فيه شخصيات النص انهما على العكس يحتمان عزلة المكان عن طريق الاعاقة والتعطيل . ان المؤلف يغير من معنى المكان من خلال الغاء وظائف اشيائه او استبدال هذه الوظائف بالذي لا يتفق مع تواجدها على ساحة هذا المكان ومما يزيد من ضغط المكان ان الشخصيات ستمكث فيه الى الابد .

انيز : .... سنمكث في هذه الحجرة معا ثلاثتنا الى الابد

وبدلا من التوحد او التكيف معه فانه يتحول الى وسيلة انفصال وعزلة ، مما يلقي على كاهل الشخصيات الاخرى ضغطا هائلا ، يجعل الشخصيات تتطاحن وتتصارع بينها مما يزيد في عزلتها ، عزلة الشخصية في ذاتها وعزلتها مع الاخرين عن طريق الانفصال

انيز :... سيكون العذاب عن طريق الانفصال

فبالاضافة الى عدم الفهم الحاصل بين الشخصيات ، وبالاضافة الى اختلاف اهدافها وزوعاتها فان المكان يمارس فغعاليته في الضغط على الشخصيات ، انه ينخر كياناتها ان المكان ليس بيئة او واقعا او ساحة عمل ، انه نسيج كياني في وجود الشخصيات وهي تدمر بعضها بعضا : انه الجحيم الذي اعد من قبل عن دراسة ودراية .

ان التفاصيل الدقيقة تقع اول ما تقع في تأثيث هذا الجحيم بحيث تجلس كل شخصية قبالة الشخصية الاخرى الى الابد ، وجها لوجه المعذب والمعذب

وعبر جحيم المكان واختناق الشخصيات في جوه الخانق يحدث مايشبه ( التطهير) اذ تعترف كل شخصية بالسبب الذي جرائه قذف بها في هذا المكان ، فالكل شخصية تاريخ من القذارة انه جار سان لم ياتي الى هنا جراء جبنه بل انه دمر حياه زوجته / التي خلقت لكي تكون ضحية او شهيدة دمرها من خلال النوم مع عشيقاته على سرير الزواج . انيس وتاريخها الشاذ في اقامة الجنسية المثلية في مرافقته النساء واقامة علاقات مع شاب من عمرها وانتحاره بسببها واستيل التي قتلت طفلتها التي جاءت من علاقة مع رجل ومن خلف ظهر زوجها.

كل الشخصيات تعترف بجرائمها في ال ( هناك) في الدنيا وما فعلته في ال(هناك) ادى الى معاقبتهم وقذفهم في (هنا) ليوعانو من عزلتهم واحتقار كل شخصية اخرى وهذا هو جوهر العذاب الذي لا ياتي عنده سارتر من الات التعذيب والكلالايب والقذبان فالجحيم هو العزلة

 استيل وهي تشتهي جارسان الذي يخفق في تقديم ماتريده منه .

انيس وهي تشتهي استيل وتريد منها جسدها الغض وجارسان الذي يريد استيل لنفسه ولكن انيس تمنعهما، علاقات لا يمكن تحقيقها رغم انه ثلاثة يعيشون في نفس المكان، الحجرة ، مما يعمق الالم ويضاعف العذاب.

ان مكان وجودي هنا يعزز اقتراب الشخصيات مما يحقق انفصالها وعزلتها،وهو في كل الاحوال ينجز ما تنجزة لغة النص على هذا المستوى.

لقد انجز جان بول سارتر احداث مسرحيته / جلسة سرية / عبر مكانية ثابتة وواحدة – وحدة المكان- غير ان قيمة المكان ووظيفتة هنا، لم تاتي وفق المعطيات الاكلاسيكية، او حسب ما ناده به اللكلاسيكيون المحدثون، فالمكان في هذا النص ليش بيئة خارجية او سطحا او وعائع تقع فيه الاحداث ان المكان هنا( وجود) تام يتداخل فيه بنية الاحداث وعمل الشخصيات . ان حضوره كياني، بمعنى انه يضاف الى قائمة اسماء الشخصيات الرئيسية في النص .  

 

ســــــــــــــارتر .. مكان الجحيم